سورة الحشر - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم {قَرِيبًا} يعني مشركي مكة {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يعني القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في تخاذلهم فقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان {إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أجد أحدًا منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض- وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند- فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة.
فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك، فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنًا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبًا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يومًا بعدها، فلما انفتل رآه قائمًا يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يومًا ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يومًا مرة، وربما مدَّ إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض.
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإن لي صاحبًا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادًا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه. ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونًا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو فيعافون، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم: أتريدون أن أعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنًا من ذلك؟ قال: فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها، ثم قولوا له هي أمانة عندك، فاحتسب فيها.
قال: فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته، وقالوا: هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها، وكانت تكشف عن نفسها، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل: ذهب بها شيطانها، فلم أقدر عليه. فدخل فقتلها، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقي طرف خارجًا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدَّقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه ودفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ في نفسه: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، فإن برصيصا خير من ذلك. قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث. فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر، فلم يخبر أحدًا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، وقال الأوسط: وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر: وأنا رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟ فكأنكم اتهمتموني؟ فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه فانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئوس والمساحي فهدموا صومعته وأنزلوه، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت؟ فلم يزل يعيِّره، ثم قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعتَ حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس؟ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك! قال: وما هي قال تسجد لي قال: ما أستطيع. قال: افعلُ فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني برئ منك {إني أخاف الله رب العالمين}.


يقول الله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} يعني الشيطان وذلك الإنسان {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير عن المدينة فدسَّ المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمدًا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله، فكان عاقبة الفريقين النار.
قال ابن عباس رضي الله عنه: فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتَّقِيَّة والكتمان، وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار، ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس، وكانت قصة جريج على ما: أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أيْ رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننَّه لكم قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغية فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه، فمرَّ رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.
قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ وسرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيتِ، ولم تزنِ، وسرقتِ، ولم تسرقْ، فقلت: اللهم اجعلني مثلها».


قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يعني ليوم القيامة، أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه، عملا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه؟ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} تركوا أمر الله {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أي حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
{لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5